
وكالة صنعاء الإخبارية||
الكاتب ماجد زايد ..
تجاوزت بلاغته وحكمته وفلسفته الكثير من عظماء الدنيا، لكنه كان بصيغة يمنية خالصة، صيغة تشبه اليمن وأرضها وأبناءها. لهذا قد يفاجئك تقارب معانيه مع أرسطو وأفلاطون وسقراط، وهم أعظم حكماء العصر القديم. ومن العصر الحديث، قد تجد مآثره ومغازيه شبيهةً بما اشتهر به تشارلز ديكنز وسكوت، وكانط ومارتن هايدجر، لكنه بقي ضمن نطاق وطن واحد وجغرافيا شعب ينتمي إليه، بقي مغمورًا ضمن حدود اليمن واليمنيين، مغمورًا ومطمورًا، لكنه حاضر في معظم تفاصيل الأمثلة والتشبيهات المنتمية إلى اليمن أرضًا وتاريخًا وشكلًا.
الحكيم اليماني #علي_ولد_زايد، الحكيم والأديب والفيلسوف والشاعر الحصيف، العالم الفلكي، والعارف النفسي، والخبير الزراعي، والأسطورة اليمنية الخالدة، وأحد أعظم الحكماء اليمنيين، بل أعظمهم وأهمهم وأذكاهم وأدهاهم وأحذقهم. إنه أبرز من قال الأمثال، وأخلد من صاغ الحكم والأعراف، فقدّم الأمثال الشعبية لزمنه وعصره ولجميع العصور والأزمان، ليصبح بذلك اسمًا من الماضي وذكرى خالدة في المستقبل.
يقول عنه الشاعر اليمني المعروف #عبدالله_البردوني:
“إن علي ولد زايد هو كل الشعب اليمني، وزمانه هو كل الأزمان، وقريته هي كل القرى اليمنية، فقد عبّر بكل لهجات اليمنيين، ولا يعبر بلهجات كل الشعب إلا كل الشعب”.
مع أن الحكايات التي انطلقت عنه هي بعض يوميات الناس، إلا أنه حاضر في كل بيت من بيوت اليمنيين، في كل حقل من حقولهم، وفي كل سهل ووادٍ وجبل، في الذرى الشاهقة والمدرجات الزراعية، في الريف والحضر، وفي كل مكان. ينشد أحلام وآمال اليمنيين، ينهض من أوجاعهم وآلامهم، ويقف مع صغيرهم وكبيرهم، يعلم ويدرس ويدرب الناس على مواقيت ونجوم زراعتهم وحصادهم.
مكان وزمان ولادته
اشتهر علي ولد زايد بهذا الاسم منذ قديم الزمان، لكن لا أحد يعرف بالتحديد مكان ولادته أو العصر الذي وُلد فيه. إلا أنه، كما يقول المؤرخ اليمني مطهر الإرياني، عاش بعد الإسلام، وتحديدًا بعد استقرار اللهجات اليمنية. وبحسب كثير من المؤرخين، فإنه من أهل قرية “منكث” في منطقة “كتاب”، بين مدينتي ظفار ويريم، وظفار هي منطقة يمنية قديمة وعاصمة حميرية معروفة.
وقد بني هذا التأصيل التاريخي على أساس ورود اسم قرية “منكث” في كثير من قصائد علي ولد زايد، تمامًا كقوله:
“يالله يا بيض (منكث)، كثر الكلام بطّلينه،
حلفت يا راس (بدرهْ) لا بد ما تبصرينه،
قالوا تغدت بـ (ميتم) وغسلت في (غدينة)”.
أمثاله وحكمه
لا يوجد بيت يمني على مستوى الوطن بأكمله لا يعرف علي ولد زايد، ولا يحفظ بعضًا من أمثاله ومقولاته. وهذا الخلود العظيم كان نتاجًا طبيعيًا لارتباطه ومعايشته وتفاعله مع ناسه ومجتمعه.
عاش في زمانه مع أبناء مجتمعه، وتفاعل معهم، وأحبهم، وأحس بهم وبأحاسيسهم، ونطق بألسنتهم، فكان لهم حكيمًا موجهًا وأبرز رموزهم الخالدين.
يقول علي ولد زايد:
> “عز القبيلي بلاده، ولو تجرع وباها،
يسير منها بلا ريش، ولا ملك ريش جاها”.
هنا تتجلى حكمة عميقة عن اليمني الذي يعيش مصانًا في بلاده، مقارنةً بإغراءات الرحيل. يعاني اليمني في أرضه، لكنه لا يفضل عليها بلاد المهاجرين، وإن هاجر ذات يوم، يبقى متعلقًا بأصله وبلاده.
بعض من أمثاله الشعبية الرائجة
“الدين قبل الوراثة”.
“أينما حلّت السبع حليت”.
“لولا القضا لعشت بالدين”.
“من قابص الناس يُقبص، ولا قُبص لا يقول أح”.
“ليل القضا يشتي الدين”.
“ما في النجوم إلا سهيل”.
“من قارب الكير يحرق، ولا امتلأ غباره”.
“نخس البتول ينفع الثور”.
“بتله على ثور زاحف ولا تجداي الأصحاب”.
“ما يجبر الفقر جابر غير القلم والدفاتر”.
“إن صاحبك مثل روحك.. وإلا فلا كان صاحب”.
“من كان أبوه يقهر الناس، كان القضاء في عياله”.
“ذي ما يغارم ويغرم.. له المنايا تشيله”.
حكايته مع زوجاته الثلاث
تزوج علي ولد زايد من ثلاث نساء، إحداهن ابنة عمه. وتُروى عنه حكاية ظريفة دارت بينه وبين زوجاته الثلاث، إذ تقول الرواية:
كان علي ولد زايد يسكن مع زوجاته في بيته المتواضع، وذات ليلة ألمَّ به الفقر، فخرج بحثًا عن الرزق أو الاقتراض، لكنه لم يجد شيئًا. فعاد متأخرًا وصعد إلى سطح منزله يتأمل النجوم ويفكر في حاله.
سمع زوجاته يتحدثن عنه، فقالت إحداهن: “أين ذهب علي ولد زايد؟” فأجابت الأخرى: “ذهب يسرق وسيحلف أنه ما سرق”. وقالت الثالثة: “ذهب يزني”. عندها تدخلت زوجته ابنة عمه قائلةً: “ألا تصبرن على الرجل ولو ليلة واحدة؟ أنتن تنكرن الجميل وتهتكن الستر!”.
ثم ذهبت وأحضرت بعض الحبوب التي خبأتها بين علف الإبل، وصنعت منها طعامًا. وعندما رأى علي ولد زايد ذلك، قال:
> “يقول علي بن زايد.. من عادة الفقر الأخلاف،
أمسيت من فقر ليلة، سارق وزانٍ وحلاَّف”.
ثم طلق زوجتيه الأخريين، وأنشد قائلاً:
> “ما يجبر الفقر جابر، إلا البقر والزراعة،
وإلا القلم والدفاتر، وإلا جمالًا تسافر،
تقبل بكل البضاعة، وإلا مرةً من قبيلة،
فيها الورع والقناعة، تُدبر الوقت كله،
كأنه لديها وديعة”.
إرثه وتأثيره في التراث اليمني
يُعد تراث علي ولد زايد شكلًا مهمًا من أشكال التراث الشفهي “التراث اللامادي”، الذي حافظ عليه اليمنيون جيلًا بعد جيل في الريف والحضر.
وقد دفعَت جزالة أقواله وبلاغتها المستشرق الروسي أناطولي أغاريشيف إلى تأليف كتاب باللغتين العربية والروسية بعنوان “أحكام علي بن زايد”، حيث صنف أمثاله وفق موضوعات محددة، بل وحاول وزنها على ضوء علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي.
كما أفرد عبدالله البردوني فصلًا كاملًا في كتابه “فنون الأدب الشعبي في اليمن” عن علي ولد زايد، متناولًا حكايته، أمثاله، وأعرافه.
إنه بحق حكيم اليمن الأول، الذي بقيت كلماته خالدة في قلوب اليمنيين.
ماجد زايد